مقتطفات من كتاب درء التعارض

 ولفظ (الكلام) مثل لفظ: الرحمة، والأمر، والقدرة، ونحو ذلك من ألفاظ الصفات التي يسمونها في اصطلاح النحاة مصادر، ومن لغة العرب أن لفظ المصدر يعبر به عن المفعول كثيراً، كما يقولون: درهم ضرب الأمير.

ومنه قوله تعالى: {هذا خلق الله} : أي مخلوقه؟.

فالأمر يراد به نفس مسمى المصدر، كقوله: {أفعصيت أمري} ، {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} ، {ذلك أمر الله أنزله إليكم} .

ويراد به المأمور به، كقوله تعالى: {وكان أمر الله قدرا مقدورا} ، {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} ، فالأول هو كلام الله وصفاته، والثاني مفعول ذلك وموجبه ومقتضاه.

وكذلك لفظ (الرحمة) يراد بها صفة الله التي يدل عليها اسمه: الرحمن، الرحيم، كقوله تعالى: {ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما} ، ويراد بها ما يرحم به عباده من

المخلوقات، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة» .

وقوله «عن الله تعالى: يقول للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، ويقول للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي» .

وكذلك الكلام يراد به الكلام الذي هو الصفة، كقوله تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} ، وقوله: {يريدون أن يبدلوا كلام الله} .

 ويراد به ما فعل بالكلمة، كالمسيح الذي قال له (كن) فكان، فخلقه من غير أب على غير الوجه المعتاد المعروف في

لآدميين، فصار مخلوقا بمجرد الكلمة دون جمهور الآدميين، كما خلق آدم وحواء أيضاً على غير الوجه المعتاد، فصار عيسى عليه السلام مخلوقا بمجرد الكلمة دون سائر الآدميين.

وفي هذا الباب، باب المضافات إلى الله تعالى، ضلت طائفتان: طائفة جعلت جميع المضافات إلى الله إضافة خلق وملك، كإضافة البيت والناقة إليه، وهذا قول نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم، حتى ابن عقيل وابن الجوزي وأمثالهما، إذا مالوا إلى قول المعتزلة سلكوا هذا المسلك، وقالوا: هذه آيات الإضافات لا آيات الصفات، كما ذكر ذلك ابن عقيل في كتابه المسمى بـ نفي التشبيه وإثبات التنزيه، وذكره أبو الفرج بن الجوزي في منهاج الوصول وغيره، وهذا قول ابن حزم وأمثاله ممن وافقوا الجهمية على نفي الصفات وإن كانوا منتسبين إلى الحديث والسنة.

وطائفة بإزاء هؤلاء يجعلون جميع المضافات إليه إضافة صفة، ويقولون بقدم الروح، فمنهم من يقول بقدم روح العبد، لقوله:

{ونفخت فيه من روحي} ، وهم من جنس النصارى الذين يقولون بأن روح عيسى من ذات الله تعالى.

ومن هؤلاء من ينتسب إلى أهل السنة والحديث، إلى الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة، كطائفة من أهل طبرستان وجيلان، وأتباع الشيخ عدي وغيره.

وطائفة ثالثة تقف في روح العبد: هل هي مخلوقة أم لا؟ وهم منتسبون إلى السنة والحديث من أصحاب أحمد وغيرهم، والنزاع بين متأخري أصحاب أحمد وغيرهم وهو في المضافات الخبرية، كالوجه واليد والروح.

وأما المعتزلة فيطردون ذلك في الكلام وغيره.

وقد بين أحمد الرد على الطائفتين الأوليين، وهؤلاء الطائفتان أيضاً يضلون في المضاف بمن، فإن المجرور بالإضافة حكمه حكم المضاف، كقوله تعالى: {ولكن حق القول مني} ، وقوله تعالى: {وروح منه} ، فالطائفتان يجعلون القول منه كالروح منه، ثم يقةل النفاة: والروح مخلوقة بائنة عنه، فالقول مخلوق بائن عنه، ويقول الحلولية: القول صفة له ليس لمخلوق، فالروح التي منه صفة له ليست مخلوقة.

والفرق بين البابين: أن المضاف إذا كان معنى لا يقوم ينفسه ولا بغيره من المخلوقات، وجب أن يكون صفة لله تعالى قائما به، وامتنع أن تكون إضافته إضافة مخلوق مربوب، وإن كان المضاف عينا قائمة بنفسها كعيسى وجبريل وأرواح بني آدم، امتنع أن تكون صفة لله تعالى، لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره.

فقوله تعالى: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} ، وقوله في عيسى: {وروح منه} ، وقوله تعالى: {قل الروح من أمر ربي} ، يمتنع أن يكون شيء من هذه الأعيان القائمة بنفسها صفة لله تعالى.

تعليقات